عندما كنا طلابا في الجامعة كان هناك شيء اسمه مجمع اللغة العربية. لا نعرف عنه سوى بعض الأسماء الشهيرة؛ طه حسين وشوقي ضيف إلخ. اقترن اسمه بنكتة الشاطر والمشطور الشهيرة. جرت في فترة السبعينات والثمانينات مطالبات لإنشاء مجمع للغة العربية في المملكة. المتفائلون كانوا يرجون من الله ثم من رعاية الشباب أن تضع خبرتها في إدارة المنتخب لتطوير اللغة العربية. لا اعرف ما الذي كان يمكن ان يحل باللغة العربية لو أن الرعاية استجابت لمطالب الاخوة المثقفين وتبنت مشروع انشاء مجمع لغة عربية على خلفية ما حل بالكورة السعودية في السنوات الأخيرة. مضت الأمور على حالها وانطفأت المطالبات حتى اختفت .. ارجو ألا يفزع القارئ ويظن اني سأتباكى مع المتباكين هذه الأيام على لغة الضاد وعلى لغة القرآن وعلى لغة الجنة. تعلمت من التجربة أنه كلما صارت القضية تدار بكلمات فخمة ومخيفة وتنطوي على تهديد سياسي او ديني قلتْ جديتها وأصبحت نهباً للمنافقين.
حديثي هذا جرى قبل حوالي عشرين عاما في عز عصر التهديدات والتخويفات والإرهاب باسم الدين او اللغة العربية أو الوطن أو الأمة إلى آخر ما يعرفه الكثير. في مساء شتوي جميل تجمع عدد لا بأس به من كتاب القصة ومحبيها في مقر النادي الأدبي بالرياض. وبعد حوالي ربع ساعة بالكثير ٍبدأ كتاب القصة تلاوة ما تيسر من قصصهم. بعضها من كلام البشر وبعضها من كلام الطير. وبعد الانتهاء بدأ الحضور يظهرون استحسانهم اما حقا او مجاملة. في امسيات كهذه ينطوي الامر على كثير من التشجيع والمؤازرة والإخوانية. ( كانوا شلل) لا يعكر صفو هؤلاء المبدعين إلا تدخلات جيوش شباب الصحوة التفتيشية التي كانت تجوب الدكاكين والمخابز ومشاغل الخياطة وصالونات الحلاقة والقبور والنوادي الأدبية والدوائر الحكومية لتعطي دروسها أو تبلغ عن المخالفات فيها وإذا لزم الأمر نفذوا اوامرهم بأيديهم المعطرة بالأيمان. كان إخواننا الحداثيون على قدر لا حدود له من الضعف والمسكنة. لا يحميهم من هذه الجيوش سوى دعوات امهاتهم الصادقة.
جيوش الصحوة هذه تفرع عنها جيوش فرعية وعن الفرعية تفرعت فرعية أخرى. فالتخويف باسم الدين تفرع عنها التخويف باسم اللغة العربية وهذه تفرع عنها تخويف باسم التراث وهكذا اصبح كل شيء كرباجا يجوز استخدامه لمن أراد سلطة. صارت أدوات القمع والتسلط متوفرة بأيدي الجميع. فظهر في تلك الفترة قوة نصف صحوية. (نصف مجنزرة) إذا اردنا الدقة. امتلكت هذه القوة الحسنيين؛ الأناقة في الملبس (بشت ودهن عود ومساويك ) ولكن بلا لحية كثة(تحت ضغوط السفر إلى المغرب وغيرها من أماكن النزهةٍ التي لا يليق أن يكون المرء فيها ملتحيا). وفي نفس الوقت امتلك هؤلاء المحتوى البطاش المعتمد في الأصل لشباب الصحوة. كما لا يخفى عليكم التطور يقود إلى التخصص. فتخصص جزء من هؤلاء في الدفاع عن اللغة العربية. وكان افضل مكان تمارس فيها هذه القوة النوادي الأدبية مأوى الحداثيين التعساء .
كان حديث تلك الليلة يدور حول القصة وفن القصة ونقد القصة، فجأة طلب احد الحضور التعليق ولم ينتظر الموافقة بل سار بكل قوة وثبات إلى المايكروفون، وكما توقعتم بدأ التباكي على اللغة العربية متهما الجميع بالجهل وذكر في معرض حديثه التعابير المدرة للدموع (لغة الضاد ولغة القرآن ولغة الجنة) نفس العبارات التي تسمعونها اليوم في مناسبة اليوم العالمي للغة العربية. أصيب القوم بالخوف المعتاد فانتفش صاحبنا وعاد منتصرا إلى مقعده. من سوء حظه أن كان بين كتاب القصة نائب رئيس جريدة اليوم التي يكتب فيها الغيور مقالة أسبوعية. فقال نائب رئيس الجريدة بكل هدوء. يا دكتور مقالاتك هي اكثر المقالات التي نضطر أن نصححها حتى املائياً فانفجرت الصالة بالضحك. وبتشجيع من كلام نائب رئيس التحرير انتصب احد الحداثيين كان يجلس جنب الدكتور ٍوقال يا جماعة هذا الرجل من لحظة دخوله إلى ان انتهت الأمسية كان يثرثر مع جاره. لم يسمع ولا كلمة من الأمسية. فانفجرت الصالة بالضحك مرة أخرى. سحب الدكتور بشته على ظهره بشكل صحيح وأعاد المسواك إلى جيبه وانسل من الصالة لا يلوي على شيء.
* نقلا عن "الرياض" السعودية
** جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط.